انتهيت لتوي من قراءة ساعات بين الكتب لعباس العقاد.
ويا لله كم استمتعت بكتابة الرجل. كان أول كتاب أقرأه له رغم أنه يتجاوز الستمائة صفحة وعلى الرغم من مآخذي الفلسفية عليه وتهكمه بخصومة وازدراءه لهم وافتتانه المفرط بالغرب ورموزه – وإن كان يظهر من ذلك مظهر المنصف لهم – إلا أنه كان لديه حجة في كل ما كتب وقصد.
وإن الوصف ليعجز عن شرح فحولة الرجل في العربية فهي تنساب من بين أنامله انسياب الأقدمين برونق المعاصرين المجددين. وللرجل قدرة بالغة على الإتيان بالنعوت والصفات الجميلة المزدانة لجل كلامة. فهو لا يكاد ينفك من وصف شيء إلا أضاءت لك في ذهنك أفكار كثيرة ومآخذ أكثر على ذاك الشيء لم تكن تعهدها فيه من قبل.
قضى العقاد ساعات طوالاً بين مجالس الفلاسفة والأدباء الأقدمين والمعاصرين متجاوزاً الزمان والمكان لينهل من أدبهم وعلومهم ويتتلمذ على أيديهم.
وقد تسنى له وصفهم أدق وصف بملازمته لكتبهم التي وصفها بأنها ليست مجرد صفحات من ورق وحبر وإنما شخوص من لحمٍ ودم.
فهو بلا أدنى شك تلميذ ابن الرومي وأبي العلاء المعري وغيرهما الكثير من فطاحلة الأدب والشعر والفلسفة.
والكتاب هو عبارة عن مجموعة من مقالاته التي جمعها وأصدرها في كتاب واحد ينتقل فيها بالقارئ بين مختلف الكتب غربيها وشرقيها أعجميها وعربيها. ولا يكاد الرجل ينكر فضلاً لأحد من سائر الأمم فهو يعترف بفضلهم ويتذوق فنهم بل ويزكيه.
فنجده تارة يتكلم عن شكسبير وروعة فنة فتقول أن الرجل قد افتتن به وذهب عنه عقلة.
وتارة تجده يتكلم عن مكيافيلي ويعذرة ويرثي له فتحسب أنه قد تبنا فكرة.
وأخرى يهجو أحمد شوقي ويصف شعرة بالغث الرخيص وبأنه لم يكن أهلاً للقب إمارة الشعراء بل هو أقل من أن يوصف بشاعر ناهيك عن إمارة الشعراء في العصر الحديث.
ولم يحبس العقاد ما علم وقرأ فقد كان كريماً جواداً بعلمه وتحصيله فخط ما جمعه من رحيق تلك الكتب على أوراقه لينشرها بين الناس فيعرفوا ما عرف ويخبروا ما خبر.
وهو قد قرأ في بحور شتى وتنوعت قراءاته فقرأ في الكتب المقدسة والفلسفة والمنطق وكتب التراث والشعر العربي والأعجمي على السواء فأخرج لنا ذاك الكتاب الذي يحوي الكثير بأسلوبه الجزل المتعمق.
وهو على ذاك صاحب مفردات واسعة ونعوت مستقيمة وخيال خصب وإن لم يكن هناك فائدة من قراءة ذاك الكتاب إلا الاستمتاع بجمال ورونق اللغة العربية وتحصيل المرادفات وتعلم النعوت والصفات فهو.
وقد أثرت قرائتي له على طريقة كتابتي أنا أيما أثر. فأنا ما قرأت له إلا كتاباً واحداً وقرأته مرة واحدةً لا أكثر وهو تقصير شديد في حق من هو على شاكلة ذاك الأديب العظيم وأنا على ذلك قد استفدت منه أيما استفادة.
وصلحت به طريقة تناولي للعربية وأحسست بمدى وضاعتي وقلة حيلتي أمام تلك اللغة العظيمة المظلومة.
والكتاب أيضاً قد فتح آفاقي لتقبل الشعوب والثقافات الأخرى. وقد أقنعني العقاد بلطف وبالدليل بأن العرب ليسو هم محور الكون ولا هم سادته وليسو هم بأحسن الناس تصويراً وحساً وإن كانو هم أفصحهم لغةً وأحسنهم فطرةً وسريرة.
فالرجل يعزو الفضل لأهلة وهو أهل الثناء والفضل. وما كتبت هذه المقالة إلا لأمتدح بها الرجل وأبدي بها إعجاباً مكتوماً عندي نشأ بداخلي وتملكني تجاهه وعرفت قدرة فور انتهائي من قراءة أول صفحة من كتابه.
ونصيحة أخوية:
اقرأ كتاباً واحداً من كتبت العقاد وأنا لك زعيم بألا تعدم فائدة لغوية عظيمة من وراءه فهو الفصيح في زمن كثر فيه الأعاجم وهو الأديب في زمن الركاكة.
ولا يعنيني أن كان العقاد مصرياً أو كان غير ذلك. فللأمة جميعاً أن تفخر أن كان منها مثل ذاك الرجل الجليل. الأديب الذي كانت تعرض عليه أعمال الأدباء الانجليز والفرنسيين ليجيزها وينقدها قبل نشرها.
رحم الله العقاد وأسكنه فسيح جناته وغفر له ونفعنا بعلمة وكتاباته.
من افضل المقالات اللي قرأتها لك فصاحة وكالعادة مشاءالله الاسلوب المشوق ان الواحد مايقدرش يقف عند جزء معين بالمقالة بل بيتشد للتكملة للاخر