إن كنت تعرفني فلا بد من ظهور علامات الدهشة على فاهك الآن والصدمة من العنوان.

ذلك أني اشتهرت وسط أقراني ومعارفي بحبي المفرط للمثالية – كنت لفترة طويلة من عمري مثالياً مثالية قد تصل لحد المرض – قد لا أتمم العمل بالكلية لأني أحب ظهوره على أفضل وجة ممكن وإذا كان غير ذلك فعدم ظهورة أفضل.

كانت تلك فلسفتي عموماً في الحياة – فلسفة ممزوجة بهوس ووسواس قد يصل لحد الوسواس القهري بأنه يمكن التحسين.

لربما نشأ ذلك الهوس عندي منذ الأزل – حين كنت طفلا صغيراً أتابع برنامج خواطر الشهير لمقدمة الأشهر والأمتع أحمد الشقيري.

إن كنت من متابعي برنامج أحمد الشقيري فأنت تعرف أي موسم تحديداً أتكلم عنه وهو الموسم الخامس – موسم اليابان.

كان كل شيئ مثالياً – كل شيئ متقناً في ذلك الموسم – توهمت لوهلة بأن اليابان فعلاً كوكب مستقل منفصل عن البشر – لم أر فيها إلا الإيجابيات.

برغم تنبية الشقيري أنه لا يعرض السلبيات في برنامجة لأنه ليس مقام عرضها وإنما الهدف الاستفادة من الإيجابيات ونقلها لعالمنا العربي. ولكني تجاهلت وتغافلت عن ذلك.

فرأيت مجتمعاً مثالياً – المدينة الفضلى كما يسميها البعض. لا زلت أتذكر شعار اليابانيين الذي نقلة لنا أحمد الشقيري في ذلك الموسم وهو كايزن ويعني التطوير المستمر وليس كايزن الشركة الإسرائيلية المحتالة التي سبق وأن تكلمت عنها ها هنا.

حتى أن شعار موقعي الحالي لا زال يحمل بعضاً من ندبات تلك الحقبة الجميلة المؤلمة في نفس الوقت وهو شعار Constant Progress الذي لا أملك إلا أن أتبناة مهما حاولت الابتعاد عنه.

إذا ما الذي غيرني وغير فلسفتي ونظرتي للأمور؟ ولم لا يكون المرء مثالياً ومنتجاً في نفس الوقت أصلاً؟

فور وصولي إلى منصب إداري بشركتي الحبيبة أدركت أن نموذج المثالية المفرطة الذي كنت أتبناه لن أستطيع معه مواكبة تغيرات السوق السريعة وتطوير أنظمة الشركة القديمة نوعاً ما.

عندها أدركت بأنه لابد من اعتمادي لنموذج ال Agile Development في تطوير الموقع والخدمات – ولكن ذلك يقتضي مني بالضرورة أن أرضى بالواقع حتى ولو لم يكن مثالياً وأتبنى عقلية التطوير الدائم – وهو ما يعتبر ضرورة وليس اختيار.

في وقتها كان ذلك اختيار صعب علي جداً حيث أنني أعشق المثالية ولكن عندما واجهت نفسي وصارحتها وجدت أنه منذ متى المثالية نفعتني؟ كم من مرة كنت سوف أنشر تطبيق أو خدمة وتراجعت في اللحظة الأخيرة حتى لا يظهر عملي بشكل ناقص أو غير مكتمل؟ ماذا لو كنت نشرتها ثم طورتها؟

كم من مرة عملت مع أشخاص آخرين وكرهو العمل معي لتركيزي في أدق النقاط! وعدم قبلوي بالعمل الغير كامل من وجهة نظري أنا الشخصية؟

في الحقيقة كان ذلك كثيراً جداً. ورغم أني لم أتخل عن المثالية بشكل كامل كما سيتبين لاحقاً إلا أنه مصارحتي لنفسي تلك ساعدتني في تقبل حقيقة كوننا بشر غير كاملين بطبيعتنا وأنه من المقبول أن نبدأ بشكل غير كامل وأن نتوجه من تلك النقطة ناحية الكمال – لا بأس في ذلك حقيقة. المهم أن نبدأ العمل.

عندها أدركت أنني أنا المشكلة – وأنني من يجب علي التغيير إن كنت أريد النجاح هذة المرة – ولكم كنت أريد ذلك.

فالإنسان منا يحصل غالباً على فرص قليلة جداً في مسار حياتة لتغييرها جذرياً وللقيام بعمل نقلة نوعية في عملة ووظيفته – فقد كنت في وقتها صيدلي – ولطالما راودني حلم تطوير نفسي وتغيير مساري الوظيفي أو ما يسمى بال Career Shift وها هي قد أتت الفرصة – ولم أكن على استعداد بأن تؤثر على أي أيدولوجية بالسلب ناحية تحقيق ذلك الهدف حتى وإن كانت المثالية التي أتبناها. كل ذلك وأكثر جال في وجداني في الشهور القليلة الأخيرة. ولكن ما أنا فخور به هو استطاعتي وضع يدي على المشكلة والسعي نحو حلها حتى وإن كان ذلك معناه أني من كنت على خطأ ويجب تغيير عقليتي وطريقة تفكيري التي لطالما افتخرت بها.

كان يتوجب علي أيضاً أن أقبل من هم أقل مني في التفكير والعقل – أو من كنت أظنهم كذلك وقتها – فقد كنت معتداً جداً بنفسي وبطريقة فهمي للأمور لدرجة قد توحي للبعض أني متكبر وهو أبعد ما يكون عن حقيقتي – فبين التكبر والاعتداد بالنفس شعرة لم أقطعها إلا في مرات قليلة في حياتي.

ولكن اعتدادي بنفسي ذاك حرمني من فرصة الاستماع لوجهات نظر الآخرين التي حتى وإن كانت ضعيفة فقد تلقي الضوء على ناحية ما من نواحي العمل لم تكن في حسباني ابتداءاً.

حقيقة إن تغيير النفس البشرية هو أصعب تغيير لأنك يجب أن تدرك أن هناك خطأ وأن ذلك الخطأ فيك أنت وهو شيء يصعب على الكثير منا إدراكة والاعتراف به.

حتى من نصحوني وواجهوني بذلك هم أنفسهم لديهم الكثير من المعضلات الفلسفية والعوامل النفسية التي لم يواجههو أنفسهم بها بعد. ولكن هذا موضوع نقاش آخر وليس موضوعنا هنا.

بعد أن خرجت من بوتقة المثالية قليلاً ونظرت خلفي وجدت أنه لو كنت مكان زملائي في العمل لضجرت من نفسي بسهولة. لا أعلم إن كنت جربت العمل مع شخصٍ مثالي من قبل أو لا ولكن هم الأشخاص الأصعب في التعامل بين الجميع وهم أكثر الناس عرضة أن تختلف معهم ولا يقبلو منك عملك مهما كان مقبولاً كبداية وذلك لأنه يخالف معاييرهم الشخصية في الكمال.

الشخص المثالي عندما يقوم بعمل ما فهو يقوم به على أكمل وجه – هذا إن قام به ابتداءاً – فمعضلة المثالية تكمن في تضادها مع الطبيعة البشرية الغير كاملة فمهما كان الشخص المثالي متمكناً من مجال عملة فسوف لن يرضى عن عملة هو الشخصي في مرحلة ما فما بالك بأعمال الآخرين ( من هم أقل منه من وجهة نظره ).

ولكن الشخص المنتج الذي كان مرجعيتة مرجعية مثالية هو من وجهة نظري الأفضل إدارياً على الاطلاق.

فكثير ممن يدعون الإنتاجية يقبلون بأي عمل فقط ليقال أنهم أنتجو وأن هناك عمل موجود وظاهر – وهو ما لا أحتاج أن أوضح بأنه يضر أكثر ما ينفع – فالجودة مطلوبة والأعمال الرديئة تولد دعاية سلبية لمنتجيها والقائمين عليها.

إذاً يلزم وجود التوازن بين عاملي المثالية والإنتاجية – هذا التوازن من النادر أن تجده مع شخص بمرجعية انتاجية يصبو نحو المثالية – حيث أن إنتاجيته التي هو معتاد عليها ستكون في صراع دائم مع مثاليته التي يصبو إليها وهو بذلك سوف يدمر نفسه والعمل الذي يشرف عليه تدميراً تاماً وسوف يصبح نسخة أكثر ردائه من المثالي النقي بنفسه. فعلى الأقل المثالي النقي لا يدعي الإنتاجية ولا يقبل بأي عمل رديء.

إن النموذج الذي أنا عليه الآن هو من وجهة نظري أفضل نموذج لأي شخص عامل – وإن كان لك رأي يخالفني فأنا حقيقة أسعد بسماعة لتطوير نفسي فلربما عندك وجهة نظر لا أعلمها تساعدني من خلالها في النظر لأبعاد لم تكن في حسباني. وأنا سعيد بتلقي جميع تعليقاتكم.